الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، والفراء والأخفش وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه وفي الآية أوجه أخر: منها أن ناصب الظرف {قَدِيرٌ} [آل عمران: 29]، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى، ومنها أنه منصوب بالمصير أو بالذكر أو بيحذركم مقدرًا فيكون مفعولًا به أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو اذكروا يجوز في {مَّا عَمِلَتْ} أن يكون مبتدأ خبره جملة {تَوَدُّ} وأن يكون معطوفًا على {مَا} الأولى، وجملة {تَوَدُّ} إما مستأنفة جوابًا لسؤال مقدر كأن سائلًا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم: فماذا يكون إذ ذاك؟ فقيل: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا} إلخ، أو حال من فاعل {تَجِدُ} أي اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرًا وادّت تباعد ما بينها وبينه وجوز أن يكون حالًا من ضمير {عَمِلَتْ} لقربه، واعترض بأن الوداد إنما هو وقت وجدان العمل حاضرًا في الآخرة لا وقت العمل في الدنيا، والحالية من ضمير {عَمِلَتْ} تقتضيه فلا وجه لها، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى: يوم تجد كل نفس كذا مقدرًا وداده أي حال كونه ثابتًا في قدرنا وداده فالوداد وإن لم يكن مقارنًا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتًا في قدر الله تعالى وقضائه مقارن له، وهذا مثل ما قيل في قوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نَبِيًّا مّنَ الصالحين} [لاصافات: 112]، واعترض أيضًا بأنه على تقدير الحالية من ضمير {عَمِلَتْ} يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب، وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به، وجوز أيضًا أبو البقاء أن تكون ما في {مَّا عَمِلَتْ مِنْ سُوء} شرطية وإلى ذلك مال السفاقسي ورفع {تَوَدُّ} ليس انع لأنه إذا كان الشرط ماضيًا والجزاء مضارعًا جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط، واعترض بأن رفع المضارع في الجزاء شاذ كرفعه في الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول زهير: فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه، نعم لا بأس بتخريج الشواذ كقراءة {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} [النساء: 78] يرفع يدرك عليه، وأجيب بأنا لا نسلم الشذوذ، وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيرًا في لسان العرب حتى ادعى بعض المغاربة أنه أحسن من الجزم. وبيت زهير مثله قول أبي صخر: وقول الآخر: برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط، وقوله: إلى غير ذلك، وفي البحر: إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما في الآية جزاءًا لما ذكر سيبويه أن النية في المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلًا على الجواب لا نفس الجواب وحينئذٍ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير وبينه عائد على اسم الشرط وهو {مَا} فيصير التقدير تودّ كل نفس لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ما عملت من سوء وذلك لا يجوز، ورده السفاقسي بأنا لو تنزلنا على مذهب سيبويه لا يلزم محذور أيضًا لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة في النية ألا ترى أن الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه عند الأكثر، وإن كان متقدمًا عليه في النية، وقرأ عبد الله ودّت وعليها يرتفع مانع الارتفاع بالإجماع وتصح الشرطية إلا أن العلامة الثاني قال: إن في الصحة كلامًا لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على {تَجِدُ} والشرطية لا تقع حالًا ولا مضافًا إليها الظرف فلا يبق إلا عطفها على اذكر وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم ولا محيص سوى جعلها حالًا بتقدير مبتدأ أي وهي ما عملت من سوء ودّت ولا يخفى ما فيه فإنهم أعربوا أن الوصلية مع جملتها على الحالية ولم ينص النحاة على منع الإضافة إليها، وقال غير واحد من الأئمة: إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن الاستقامة لأنه كلام كحكاية الحال الكائنة في ذلك اليوم فيجب أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على أنها تفيد الاستقبال ولا عمل سوء في استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفي الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه، وحديث الاستقبال يدفعه تقدير وما كان عملت كما في نظائر له، فتدبر وافهم فعلك لا يقطعك عن اختيار الموصولية شيء.{وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} قيل: ذكره أولًا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثًا على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقًا.وجوز أن يكون معطوفًا على {تَوَدُّ} أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيء {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن يخرج الكتاب العزيز عليه، وأهون منه عطفه على {تَجِدُ} والظرف معمول لاذكروا أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته، وقد يقال: إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده، وقوله تعالى: {والله رَءوفٌ بالعباد} من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم، أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنيًا على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضًا.
والقول بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب فلا يمكن أن تتعلق بالله تعالى ساقط من القول لأنها قد تتعلق بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر.{يُحْبِبْكُمُ الله} جواب الأمر وهو رأي الخليل. وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني يحببكم أي يقربكم رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة، وقيل: يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى.{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي يتجاوز لكم عنها {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لمن تحبب إليه بطاعته وتقرب إليه باتباعه نبيه صلى الله عليه وسلم، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمة، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر وللاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة، وقرئ تحبوني، ويحبكم، ويحببكم من حبه، ومنه قوله: ومناسة الآية لما قبلها كما قال الطيبي: أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا: {قُلِ اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26] إلخ تعلق قلب العبد المؤمن ولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلًا: {لا يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء} [آل عمران: 28] إلخ؛ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} [آل عمران: 29] الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد زاد ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلًا يقول: بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة الرب؟ فقيل: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود.واختلف في سبب نزولها فقال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمد: إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسمعيل ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبًا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ} إلخ»، وفي رواية أبي صالح: إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل هذه الآية فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها. وروى محمد بن إسحق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبًا لله تعالى وتعظيمًا له فأنزل الله هذه الآية ردًا عليهم. يروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبيّ إن محمدًا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى... فنزل قوله تعالى:
|